فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{ن والْقلمِ وما يسْطُرُون (1)}
افتتاح هذه السورة بأحد حروف الهجاء جار على طريقة أمثالها من فواتح السور ذوات الحروف المقطعة المبيّنة في سورة البقرة وهذه أول سورة نزلت مفتتحة بحرف مقطع من حروف الهجاء.
ورسمُوا حرف {ن} بصورته التي يرسم بها في الخط وهي مسمّى اسمه الذي هو {نُون} (بنونٍ بعدها واو ثم نون) وكان القياس أن تكتب الحُروف الثلاثةُ لأن الكتابة تبع للنطق والمنطوق به هو اسم الحرف لا ذاته، لأنك إذا أردت كتابة سيف مثلا فإنما ترسم سينا، وياء، وفاء، ولا ترسم صورة سيْف.
وإنما يُقرأ باسم الحرف لا بهجائه كما تقدم في أول سورة البقرة.
ويُنطق باسم نون ساكن الآخر سكون الكلمات قبل دخول العوامل عليها، وكذلك قرئ في القراءات المتواترة.
{فستُبْصِرُ ويُبْصِرُون (5) بِأيِّكُمُ الْمفْتُونُ (6)}
الفاء للتفريع على قوله: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} [القلم: 2] باعتبار ما اقتضاه قوله: {بنعمة ربك} [القلم: 2] من إبطال مقالة قيلت في شأنه قالها أعداؤه في الدين، ابتدأ بإبطال بهتانهم، وفرع عليه أنهم إذا نظروا الدلائل وتوسموا الشمائل علموا أي الفريقين المفتون أهُم مفتونون بالانصراف عن الحق والرشد، أم هو باختلال العقل كما اختلقوا.
والمقصود هو ما في قوله: {ويبصرون} ولكن أدمج فيه قوله: {فستبصر} ليتأتى بذكر الجانبين إيقاعُ كلام منصف (أي داع إلى الإِنصاف) على طريقة قوله: {وإنا أو إياكم لعلى هُدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24] لأن القرآن يبلغ مسامعهم ويتلى عليهم.
وفعْلا (تبصر ويبصرون)، بمعنى البصر الحسي.
وروي عن ابن عباس، أن معناه فستعلم ويعلمون، فجعله مثل استعمال فعل الرؤية في معنى الظن، فلعله أراد تفسير حاصل المعنى إذ قد قيل إن الفعل المشتق من (أبصر) لا يستعمل بمعنى الظن والاعتقاد عند جمهور اللغويين والنحاة خلافا لهشام كذا في (التسهيل) فالمعنى: سترى ويرون رأي العين أيكم المفتون فإن كان بمعنى العلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ذلك فالسين في قوله: {فستبصر} للتأكيد، وأما المشركون فسيرون ذلك، أي يعلمون آثار فتونهم وذلك فيما يرونه يوم بدر ويوم الفتح.
وإن كان بمعنى البصر الحسي فالسين والتاء في كلا الفعلين للاستقبال.
وضمير {يُبصرون} عائد إلى معلوم مقدر عند السامع وهم المشركون القائلون: هو مجنون.
و(أي) اسم مبهم يتعرف بما يضاف هو إليه، ويظهر أن مدلول (أي) فرد أو طائفة متميز عن مشارك في طائفته من جنس أو وصف بمميّز واقعي أو جعْلي، فهذا مدلول (أيّ) في جميع مواقعه، وله مواقع كثيرة في الكلام، فقد يشرب (أيّ) معنى الموصول، ومعنى الشرط، ومعنى الاستفهام، ومعنى التنويه بكامل، ومعنى المعرّف بـ (ال) إذا وُصل بندائه.
وهو في جميع ذلك يفيد شيئا متميزا عما يشاركه في طائفته المدلولة بما أضيف هو إليه، فقوله تعالى: {بأيكم المفتون} معناه: أيُّ رجل، أو أيُّ فريق منكم المفتون، ف (أي) في موقعه هنا اسم في موقع المفعول ل (تُبصر ويبصرون) أو متعلق به تعلق المجرور.
وقد تقدم استعمال (أيّ) في الاستفهام عند قوله تعالى: {فبأي حديث بعده يؤمنون} في [الأعراف: 185].
والمفتون}: اسم مفعول وهو الذي أصابته فتنة، فيجوز أن يراد بها هنا الجُنون فإن الجنون يعدّ في كلام العرب من قبيل الفتنة (يقولون للمجنون: فتنتْهُ الجن) ويجوز أن يراد ما يصدق على المضطرب في أمره المفتون في عقله حيرة وتقلقلا، بإيثار هذا اللفظ، دون لفظ المجنون من الكلام الموجّه أو التورية ليصح فرضه للجانبين.
فإن لم يكن بعض المشركين بمنزلة المجانين الذين يندفعون إلى مقاومة النبي صلى الله عليه وسلم بدون تبصر يكنْ في فتنة اضطراب أقواله وأفعاله كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهما الذين أغروا العامة بالطعن في النبي صلى الله عليه وسلم بأقوال مختلفة.
والباء على هذا الوجه مزيدة لتأكيد تعلق الفعل بمفعوله، والأصل: أيّكم المفتونُ فهي كالباء في قوله: {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6].
ويجوز أن تكون الباء للظرفية والمعنى: في أيّ الفريقين منكم يوجد المجنون، أي من يصدق عليه هذا الوصف فيكون تعريضا بأبي جهل والوليد بن المغيرة وغيرهما من مدبري السوء على دهماء قريش بهذه الأقوال الشبيهة بأقوال المجانين ذلك أنهم وصفوا رجلا معروفا بين العقلاء مذكورا برجاحة العقل والأمانة في الجاهلية فوصفوه بأنه مجنون فكانوا كمن زعم أن النهار ليل ومن وصف اليوم الشديد البرد بالحرارة، فهذا شبه بالمجنون ولذلك يجعل {المفتون} في الآية وصفا ادعائيا على طريقة التشبيه البليغ كما جعل المتنبي القوم الذين تركوا نزيلهم يرحل عنهم مع قدرتهم على إمساكه راحلين عن نزيلهم في قوله:
إذا ترحّلْت عن قوم وقد قدروا ** أن لا تفارقهم فالرّاحلون هُمُو

ويجوز أن يكون {المفتون} مصدرا على وزن المفعول مثل المعقول بمعنى العقل والمجلود بمعنى الجلْد؛ والميْسور لليسر، والمعسورِ لضده، وفي المثل (خُذ من ميْسوره ودعْ معسوره).
والباء على هذا للملابسة في محل خبر مقدم على {المفتون} وهو مبتدأ.
يُضمن فعل (تُبصر ويبصرون) معنى: توقن ويوقنون، على طريق الكناية بفعل الإِبصار عن التحقق لأن أقوى طرق الحسّ البصر ويكون الإِتيان بالباء للإِشارة إلى هذا التضمين.
والمعنى: فستعلم يقينا ويعلمون يقينا بأيّكم المفتون، فالباء على أصلها من التعدية متعلقة بـ (يبصر ويُبصرون).
{إِنّ ربّك هُو أعْلمُ بِمنْ ضلّ عنْ سبِيلِهِ وهُو أعْلمُ بِالْمُهْتدِين (7)}
تعليل لجملة: {فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون} [القلم: 56] باعتبار ما تضمنته من التعريض بأن الجانب المفتون هو الجانب القائل له {إنك لمجنون} [الحجر: 6] وأن ضده بضده هو الراجع العقل أي الذي أخبرك بما كنّى عنه قوله: {فستبصر ويبصرون} [القلم: 5] من أنهم المجانين هو الأعلم بالفريقين وهو الذي أنبأك بأن سيتضح الحق لأبصارهم فتعين أن المفتون هو الفريق الذين وسموا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مجنون المردودُ عليهم بقوله تعالى: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} [القلم: 2] إذ هم الضالون عن سبيل ربّ النبي صلى الله عليه وسلم لا محالة، وينتظم بالتدرج من أول السورة إلى هنا أقيسة مساواةٍ مندرج بعضها في بعض تقتضي مساواة حقيقة من ضل عن سبل رب النبي صلى الله عليه وسلم بحقيقة المفتون.
ومساواة حقيقة المفتون بحقيقة المجنون، فتُنتج أن فريق المشركين هم المتصفون بالجنون بقاعدة قياس المساواة أن مُساوِي المساوي لشيء مساوٍ لذلك الشيء.
وهذا الانتقال تضمن وعدا ووعيدا، بإضافة السبيل إلى الله ومقابلةِ من ضل عنه بالمهتدين.
وعمومُ من ضل عن سبيله وعمومُ المهتدين يجعل هذه الجملة مع كونها كالدليل هي أيضا من التذييل.
وهو بعد هذا كله تمهيد وتوطئة لقوله: {فلا تطع المكذبين} [القلم: 8]. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال ابن القيم:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الخلق:
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ} [القلم: 4] قال ابن عباس ومجاهد: لعلى دين عظيم لا دين أحب إلي ولا أرضى عندي منه وهو دين الإسلام وقال الحسن رضي الله عنه: هو آداب القرآن وقال قتادة: هو ما كان يأمر به من أمر الله وينهى عنه من نهى الله والمعنى: إنك لعلى الخلق الذي آثرك الله به في القرآن وفي الصحيحين: أن هشام بن حكيم: سأل عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «كان خلقه القرآن» فقال: لقد هممت أن أقوم ولا أسأل شيئا وقد جمع الله له مكارم الأخلاق في قوله تعالى: {خُذِ الْعفْو وأْمُرْ بِالْعُرْفِ وأعْرِضْ عنِ الْجاهِلِين} [الأعراف: 199] قال جعفر بن محمد: أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية وقد ذكر: «أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: ما هذا قال: لا أدري حتى أسأل فسأل ثم رجع إليه فقال: إن الله يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك» ولا ريب أن للمطاع مع الناس ثلاثة أحوال: أحدها: أمرهم ونهيهم بما فيه مصلحتهم الثاني: أخذه منهم ما يبذلونه مما عليهم من الطاعة.
الثالث: أن الناس معه قسمان: موافق له موال ومعاد له معارض وعليه في كل واحد من هذه واجب فواجبه في أمرهم ونهيهم: أن يأمر بالمعروف وهو المعروف الذي به صلاحهم وصلاح شأنهم وينهاهم عن ضده وواجبه فيما يبذلونه له من الطاعة: أن يأخذ منهم ما سهل عليهم وطوعت له به أنفسهم سماحة واختيارا ولا يحملهم على العنت والمشقة فيفسدهم وواجبه عند جهل الجاهلين عليه: الإعراض عنهم وعدم مقابلتهم بالمثل والانتقام منهم لنفسه فقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {خُذِ الْعفْو وأْمُرْ بِالْعُرْفِ وأعْرِضْ عنِ الْجاهِلِين} [الأعراف: 199] قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: أمر الله نبيه أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وقال مجاهد: يعني خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تخسيس مثل قبول الأعذار والعفو والمساهلة وترك الاستقصاء في البحث والتفتيش عن حقائق بواطنهم وقال ابن عباس رضي الله عنهما: خذ ما عفا لك من أموالهم وهو الفاضل عن العيال وذلك معنى قوله تعالى: {ويسْألونك ماذا يُنْفِقُون قُلِ الْعفْو} [البقرة: 219] ثم قال تعالى: {وأْمُرْ بِالْعُرْفِ} وهو كل معروف وأعرفه: التوحيد ثم حقوق العبودية وحقوق العبيد ثم قال تعالى: {وأعْرِضْ عنِ الْجاهِلِين} يعني إذا سفه عليك الجاهل فلا تقابله بالسفه كقوله تعالى: {وإِذا خاطبهُمُ الْجاهِلُون قالوا سلاما} [الفرقان: 63] وعلى هذا فليست بمنسوخة بل يعرض عنه مع إقامة حق الله عليه ولا ينتقم لنفسه وهكذا كان خلقه قال أنس رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا» وقال: «ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي قط: أف ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا» متفق عليهما وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن البر: هو حسن الخلق» وفي صحيح مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: «البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس» فقابل البر بالإثم وأخبر: أن البر حسن الخلق والإثم: حواز الصدور وهذا يدل على أن حسن الخلق: هو الدين كله وهو حقائق الإيمان وشرائع الإسلام ولهذا قابله بالإثم وفي حديث آخر: «البر: ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في الصدر» وقد فسر حسن الخلق بأنه البر فدل على أن حسن الخلق: طمأنينة النفس والقلب والإثم حواز الصدور وما حاك فيها واسترابت به وهذا غير حسن الخلق وسوئه في عرف كثير من الناس كما سيأتي في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خياركم: أحاسنكم أخلاقا» وفي الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء» قال الترمذي: حديث حسن صحيح وفيه أيضا وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: تقوى الله وحسن الخلق وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: الفم والفرج» وفيه أيضا عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم وصححه «إن من أكمل المؤمنين إيمانا: أحسنهم خلقا وخياركم: خياركم لنسائهم».
وفي الصحيح عن عائشة عنه: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم» رواه أبو داود وعن ابن عمر رضي الله عنهما عنه: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة: لمن ترك المراء وإن كان محقا وببيت في وسط الجنة: لمن ترك الكذب وإن كان مازحا ويبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه» رواه الطبراني وإسناده صحيح فجعل البيت العلوي جزاء لأعلى المقامات الثلاثة وهي حسن الخلق والأوسط لأوسطها وهو ترك الكذب والأدنى لأدناها وهو ترك المماراة وإن كان معه حق ولا ريب أن حسن الخلق مشتمل على هذا كله وفي الترمذي عن جابر رضي الله عنه عنه: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقا وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة: الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون قال: المتكبرون» الثرثار: هو كثير الكلام بغير فائده دينية والمتشدق: المتكلم بملء فيه تفاصحا وتعاظما وتطاولا وإظهارا لفضله على غيره وأصله: من الفهق وهو الامتلاء.
فصل:
الدين كله خلق فمن زاد عليك في الخلق: زاد عليك في الدين وكذلك التصوف قال الكتاني: التصوف هو الخلق فمن زاد عليك في الخلق: فقد زاد عليك في التصوف وقد قيل: إن حسن الخلق بذل الندى وكف الأذى واحتمال الأذى وقيل: حسن الخلق: بذل الجميل وكف القبيح وقيل: التخلي من الرذائل والتحلي بالفضائل.
وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر والعفة والشجاعة والعدل فالصبر: يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى والحلم والأناة والرفق وعدم الطيش والعجلة والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل وتحمله على الحياء وهو رأس كل خير وتمنعه من الفحشاء والبخل والكذب والغيبة والنميمة والشجاعة: تحمله على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته وتحمله على كظم الغيظ والحلم فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنائها ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش كما قال: «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد: الذي يملك نفسه عند الغضب» وهو حقيقة الشجاعة وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقحة وعلى خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور وعلى خلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة ومنشأ جميع الأخلاق السافلة وبناؤها على أربعة أركان: الجهل والظلم والشهوة والغضب فالجهل: يريه الحسن في صورة القبيح والقبيح في صورة الحسن والكمال نقصا والنقص كمالا والظلم: يحمله على وضع الشيء في غير موضعه فيغضب في موضع الرضى ويرضى في موضع الغضب ويجهل في موضع الأناة ويبخل في موضع البذل ويبذل في موضع البخل ويحجم في موضع الإقدام ويقدم في موضع الإحجام ويلين في موضع الشدة ويشتد في موضع اللين ويتواضع في موضع العزة ويتكبر في موضع التواضع والشهوة: تحمله على الحرص والشح والبخل وعدم العفة والنهمة والجشع والذل والدناءات كلها والغضب: يحمله على الكبر والحقد والحسد والعدوان والسفه ويتركب من بين كل خلقين من هذه الأخلاق: أخلاق مذمومة وملاك هذه الأربعة أصلان: إفراط النفس في الضعف وإفراطها في القوة فيتولد من إفراطها في الضعف: المهانة والبخل والخسة واللؤم والذل والحرص والشح وسفساف الأمور والأخلاق ويتولد من إفراطها في القوة: الظلم والغضب والحدة والفحش والطيش ويتولد من تزوج أحد الخلقين بالآخر: أولاد غية كثيرون فإن النفس قد تجمع قوة وضعفا فيكون صاحبها أجبر الناس إذا قدر وأذلهم إذا قهر ظالم عنوف جبار فإذا قهر صار أذل من امرأة: جبان عن القوي جريء على الضعيف فالأخلاق الذميمة: يولد بعضها بعضا كما أن الأخلاق الحميدة: يولد بعضها بعضا وكل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين وهو وسط بينهما وطرفاه خلقان ذميمان كالجود: الذي يكتنفه خلقا البخل والتبذير والتواضع: الذي يكتنفه خلقا الذل والمهانة والكبر والعلو فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولابد فإذا انحرفت عن خلق التواضع انحرفت: إما إلى كبر وعلو وإما إلى ذل ومهانة وحقارة وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت: إما إلى قحة وجرأة وإما إلى عجز وخور ومهانة بحيث يطمع في نفسه عدوه ويفوته كثير من مصالحه ويزعم أن الحامل له على ذلك الحياء وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس وكذلك إذا انحرفت عن خلق الصبر المحمود انحرفت: إما إلى جزع وهلع وجشع وتسخط وإما إلى غلظة كبد وقسوة قلب وتحجر طبع كما قال بعضهم:
تبكي علينا ولا نبكي على أحد ** فنحن أغلظ أكبادا من الإبل

وإذا انحرفت عن خلق الحلم انحرفت: إما إلى الطيش والترف والحدة والخفة وإما إلى الذل والمهانة والحقارة ففرق بين من حلمه حلم ذل ومهانة وحقارة وعجز وبين من حلمه حلم اقتدار وعزة وشرف كما قيل:
كل حلم أتى بغير اقتدار ** حجة لاجئ إليها اللئام

وإذا انحرفت عن خلق الأناة والرفق انحرفت: إما إلى عجلة وطيش وعنف وإما إلى تفريط وإضاعة والرفق والأناة بينهما وإذا انحرفت عن خلق العزة التي وهبها الله للمؤمنين انحرفت: إما إلى كبر وإما إلى ذل والعزة المحمودة بينهما وإذا انحرفت عن خلق الشجاعة انحرفت: إما إلى تهور وإقدام غير محمود وإما إلى جبن وتأخر مذموم وإذا انحرفت عن خلق المنافسة في المراتب العالية والغبطة انحرفت: إما إلى حسد وإما إلى مهانة وعجز وذل ورضى بالدون وإذا انحرفت عن القناعة انحرفت: إما إلى حرص وكلب وإما إلى خسة ومهانة وإضاعة وإذا انحرفت عن خلق الرحمة انحرفت: إما إلى قسوة وإما إلى ضعف قلب وجبن نفس كمن لا يقدم على ذبح شاة ولا إقامة حد وتأديب ولد.
ويزعم أن الرحمة تحمله على ذلك وقد ذبح أرحم الخلق بيده في موضع واحد ثلاثا وستين بدنة وقطع الأيدي من الرجال والنساء وضرب الأعناق وأقام الحدود ورجم بالحجارة حتى مات المرجوم وكان أرحم خلق الله على الإطلاق وأرأفهم وكذلك طلاقة الوجه والبشر المحمود فإنه وسط بين التعبيس والتقطيب وتصعير الخد وطي البشر عن البشر وبين الاسترسال مع كل أحد بحيث يذهب الهيبة ويزيل الوقار ويطمع في الجانب كما أن الانحراف الأول يوقع الوحشة والبغضة والنفرة في قلوب الخلق وصاحب الخلق الوسط: مهيب محبوب عزيز جانبه حبيب لقاؤه وفي صفة نبينا: من رآه بديهة هابه ومن خالطه عشرة أحبه والله أعلم.
فصل:
نافع جدا عظيم النفع للسالك يوصله عن قريب ويسيره بأخلاقه التي لا يمكنه إزالتها فإن أصعب ما على الطبيعة الإنسانية: تغيير الأخلاق التي طبعت النفوس عليها وأصحاب الرياضات الصعبة والمجاهدات الشاقة إنما عملوا عليها ولم يظفر أكثرهم بتبديلها لكن النفس اشتغلت بتلك الرياضات عن ظهور سلطانها فإذا جاء سلطان تلك الأخلاق وبرز: كسر جيوش الرياضة وشتتها واستولى على مملكة الطبع وهذا فصل يصل به السالك مع تلك الأخلاق ولا يحتاج إلى علاجها وإزالتها ويكون سيره أقوى وأجل وأسرع من سير العامل على إزالتها ونقدم قبل هذا مثلا نضربه مطابقا لما نريده وهو: نهر جار في صببه ومنحدره ومنته إلى تغريق أرض وعمران ودور وأصحابها يعلمون أنه لا ينتهي حتى يخرب دورهم ويتلف أراضيهم وأموالهم فانقسموا ثلاث فرق:
فرقة صرفت قواها وقوى أعمالها إلى سكره وحبسه وإيقافه فلا تصنع هذه الفرقة كبير أمر فإنه يوشك أن يجتمع ثم يحمل على السكر فيكون إفساده وتخريبه أعظم.
وفرقة رأت هذه الحالة وعلمت أنه لا يغنى عنها شيئا فقالت: لا خلاص من محذوره إلا بقطعه من أصل الينبوع فرامت قطعه من أصله فتعذر عليها ذلك غاية التعذر وأبت الطبيعة النهرية عليهم ذلك أشد الإباء فهم دائما في قطع الينبوع وكلما سدوه من موضع نبع من موضع فاشتغل هؤلاء بشأن هذا النهر عن الزراعات والعمارات وغرس الأشجار.
فجاءت فرقة ثالثة خالفت رأي الفرقتين وعلموا أنهم قد ضاع عليهم كثير من مصالحهم فأخذوا في صرف ذلك النهر عن مجراه المنتهي إلى العمران فصرفوه إلى موضع ينتفعون بوصوله إليه ولا يتضررون به فصرفوه إلى أرض قابلة للنبات وسقوها به فأنبتت أنواع العشب والكلإ والثمار المختلفة الأصناف فكانت هذه الفرقة هم أصوب الفرق في شأن هذا النهر فإذا تبين هذا المثل فالله سبحانه قد اقتضت حكمته: أن ركب الإنسان بل وسائر الحيوان على طبيعة محمولة على قوتين: غضبية وشهوانية وهي الإرادية وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق النفس وصفاتها وهما مركوزتان في جبلة كل حيوان فبقوة الشهوة والإرادة: يجذب المنافع إلى نفسه وبقوة الغضب: يدفع المضار عنها فإذا استعمل الشهوة في طلب ما يحتاج إليه: تولد منها الحرص وإذا استعمل الغضب في دفع المضرة عن نفسه: تولد منه القوة والغيرة فإذا عجز عن ذلك الضار: أورثه قوة الحقد وإن أعجزه وصول ما يحتاج إليه ورأى غيره مستبدا به أورثه الحسد فإن ظفر به: أورثته شدة شهوته وإرادته: خلق البخل والشح وإن اشتد حرصه وشهوته على الشيء ولم يمكنه تحصيله إلا بالقوة الغضبية فاستعملها فيه: أورثه ذلك العدوان والبغي والظلم ومنه يتولد: الكبر والفخر والخيلاء فإنها أخلاق متولدة من بين قوتي الشهوة والغضب وتزوج أحدهما بصاحبه فإذا تبين هذا: فالنهر مثال هاتين القوتين وهو منصب في جدول الطبيعة ومجراها إلى دور القلب وعمرانه وحواصله يخربها ويتلفها ولابد فالنفوس الجاهلة الظالمة تركته ومجراه فخرب ديار الإيمان وقلع آثاره وهدم عمرانه وأنبت موضعها كل شجرة خبيثة من حنظل وضريع وشوك وزقوم وهو الذي يأكله أهل النار يوم القيامة يوم المعاد وأما النفوس الزكية الفاضلة: فإنها رأت ما يؤل إليه أمر هذا النهر فافترقوا ثلاث فرق فأصحاب الرياضات والمجاهدات والخلوات والتمرينات: راموا قطعه من ينبوعه فأبت عليهم ذلك حكمة الله تعالى وما طبع عليه الجبلة البشرية ولم تنقد له الطبيعة فاشتد القتال ودام الحرب وحمى الوطيس وصارت الحرب دولا وسجالا وهؤلاء صرفوا قواهم إلى مجاهدة النفس على إزالة تلك الصفات وفرقة أعرضوا عنها وشغلوا نفوسهم بالأعمال ولم يجيبوا دواعي تلك الصفات مع تخليتهم إياها على مجراها لكن لم يمكنوا نهرها من إفساد عمرانهم بل اشتغلوا بتحصين العمران وإحكام بنائه وأساسه ورأوا أن ذلك النهر لابد أن يصل إليه فإذا وصل وصل إلى بناء محكم فلم يهدمه بل أخذ عنه يمينا وشمالا فهؤلاء صرفوا قوة عزيمتهم وإرادتهم في العمارة وإحكام البناء وأولئك صرفوها في قطع المادة الفاسدة من أصلها خوفا من هدم البناء وسألت يوما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة وقطع الآفات والاشتغال بتنقية الطريق وبتنظيفها فقال لي جملة كلامه: النفس مثل الباطوس وهو جب القذر كلما نبشته ظهر وخرج ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه وتعبره وتجوزه فافعل ولا تشتغل بنبشه فإنك لن تصل إلى قراره وكلما نبشت شيئا ظهر غيره فقلت سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ فقال لي: مثال آفات النفس مثال الحيات والعقارب التي في طريق المسافر فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها والاشتغال بقتلها: انقطع ولم يمكنه السفر قط ولكن لتكن همتك المسير والإعراض عنها وعدم الالتفات إليها فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله ثم امض على سيرك فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدا وأثنى على قائله إذا تبين هذا فهذه الفرقة الثالثة: رأت أن هذه الصفات ما خلقت سدى ولا عبثا وأنها بمنزلة ماء يسقى به الورد والشوك والثمار والحطب وأنها صوان وأصداف لجواهر منطوية عليها وأن ما خاف منه أولئك هو نفس سبب الفلاح والظفر فرأوا أن الكبر نهر يسقي به العلو والفخر والبطر والظلم والعدوان ويسقي به علو الهمة والأنفة والحمية والمراغمة لأعداء الله وقهرهم والعلو عليهم وهذه درة في صدفته فصرفوا مجراه إلى هذا الغراس واستخرجوا هذه الدرة من صدفته وأبقوه على حاله في نفوسهم لكن استعملوه حيث يكون استعماله أنفع وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أبا دجانة يتبختر بين الصفين فقال: «إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع» فانظر كيف خلى مجرى هذه الصفة وهذا الخلق يجري في أحسن مواضعه وفي الحديث الآخر وأظنه في المسند: «إن من الخيلاء ما يحبها الله ومنها ما يبغضها الله فالخيلاء التي يحبها الله: اختيال الرجل في الحرب وعند الصدقة» فانظر كيف صارت الصفة المذمومة عبودية وكيف استحال القاطع موصلا فصاحب الرياضات والعامل بطريق الرياضات والمجاهدات والخلوات.
هيهات هيهات إنما يوقعه ذلك في الآفات والشبهات والضلالات فإن تزكية النفوس مسلم إلى الرسل وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم إياها وجعلها على أيديهم دعوة وتعليما وبيانا وإرشادا لا خلقا ولا إلهاما فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم قال الله تعالى: {هُو الّذِي بعث فِي الْأُمِّيِّين رسُولا مِنْهُمْ يتْلُو عليْهِمْ آياتِهِ ويُزكِّيهِمْ ويُعلِّمُهُمُ الْكِتاب والْحِكْمة وإِنْ كانُوا مِنْ قبْلُ لفِي ضلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2] وقال تعالى: {كما أرْسلْنا فِيكُمْ رسُولا مِنْكُمْ يتْلُو عليْكُمْ آياتِنا ويُزكِّيكُمْ ويُعلِّمُكُمُ الْكِتاب والْحِكْمة ويُعلِّمُكُمْ ما لمْ تكُونُوا تعْلمُون فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ واشْكُرُوا لِي ولا تكْفُرُونِ} [البقرة: 151] وتزكية النفوس: أصعب من علاج الأبدان وأشد فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة التي لم يجئ بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب فالرسل أطباء القلوب فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم وعلى أيديهم وبمحض الانقياد والتسليم لهم والله المستعان فإن قلت: هل يمكن أن يقع الخلق كسبيا أو هو أمر خارج عن الكسب قلت: يمكن أن يقع كسبيا بالتخلق والتكلف حتى يصير له سجية وملكة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس رضي الله عنه: «إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة فقال: أخلقين تخلقت بهما أم جبلني الله عليهما فقال: بل جبلك الله عليهما فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله» فدل على أن من الخلق: ما هو طبيعة وجبلة وما هو مكتسب وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح: «اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت» فذكر الكسب والقدر والله أعلم.
فصل:
قال صاحب المنازل: الخلق: ما يرجع إليه المتكلف من نعمته أي خلق كل متكلف: فهو ما اشتملت عليه نعوته فتكلفه يرده إلى خلقه كما قيل: إن التخلق يأتي دونه الخلق.
وقال الآخر:
راد من القلب نسيانكم ** وتأبى الطباع على الناقل

فمتكلف ما ليس من نعته ولا شيمته: يرجع إلى شيمته ونعته وسجيته فذاك الذي يرجع إليه: هو الخلق قال: واجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم: أن التصوف هو الخلق وجميع الكلام فيه يدور على قطب واحد وهو بذل المعروف وكف الأذى قلت: من الناس من يجعلها ثلاثة: كف الأذى واحتمال الأذى وإيجاد الراحة.
ومنهم: من يجعلها اثنين كما قال الشيخ بذل المعروف وكف الأذى ومنهم من يردها إلى واحد وهو بذل المعروف والكل صحيح قال: وإنما يدرك إمكان ذلك في ثلاثة أشياء في العلم والجود والصبر ف العلم يرشده إلى مواقع بذل المعروف والفرق بينه وبين المنكر وترتيبه في وضعه مواضعه فلا يضع الغضب موضع الحلم ولا بالعكس ولا الإمساك موضع البذل ولا بالعكس بل يعرف مواقع الخير والشر ومراتبها وموضع كل خلق: أين يضعه وأين يحسن استعماله.
والجود يبعثه على المسامحة بحقوق نفسه والاستقصاء منها بحقوق غيره فالجود هو قائد جيوش الخير.
والصبر يحفظ عليه استدامة ذلك ويحمله على الاحتمال وكظلم الغيظ وكف الأذى وعدم المقابلة وعلى كل خير كما تقدم وهو أكبر العون على نيل كل مطلوب من خير الدنيا والآخرة قال الله تعالى: {واسْتعِينُوا بِالصّبْرِ والصّلاةِ وإِنّها لكبِيرةٌ إِلّا على الْخاشِعِين} [البقرة: 45] فهذه الثلاثة أشياء: بها يدرك التصوف والتصوف: زاوية من زوايا السلوك الحقيقي وتزكية النفس وتهذيبها لتستعد لسيرها إلى صحبة الرفيق الأعلى ومعية من تحبه فإن المرء مع من أحب كما قال سمنون: ذهب المحبون بشرف الدنيا والآخرة فإن المرء مع من أحب والله أعلم.
فصل:
قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: أن تعرف مقام الخلق وأنهم بأقدارهم مربوطون وفي طاقتهم محبوسون وعلى الحكم موقوفون فتستفيد بهذه المعرفة ثلاثة أشياء: أمن الخلق منك حتى الكلب ومحبة الخلق إياك ونجاة الخلق بك فبهذه الدرجة: يكون تحسين الخلق مع الخلق في معاملتهم وكيفية مصاحبته. وبالثانية: تحسين الخلق مع الله في معاملته وبالثالثة: درجة الفناء على قاعدته وأصله يقول: إذا عرفت مقام الخلق ومقاديرهم وجريان الأحكام القدرية عليهم وأنهم مقيدون بالقدر لا خروج لهم عنه ألبتة ومحبوسون في قدرتهم وطاقتهم لا يمكنهم تجاوزها إلى غيرها وأنهم موقوفون على الحكم الكوني القدري لا يتعدونه استفدت بهذه المعرفة ثلاثة أشياء: أمن الخلق منك وذلك: أنه إذا نظر إليهم بعين الحقيقة: لم يطالبهم بما لا يقدرون عليه وامتثل فيهم أمر الله تعالى لنبيه بأخذ العفو منهم فأمنوا من تكليفه إياهم وإلزامه لهم ما ليس في قواهم وقدرهم وأيضا فإنهم يأمنون لائمته فإنه في هذه الحال عاذر لهم فيما يجري عليهم من الأحكام فيما لم يأمر الشرع بإقامته فيهم لأنهم إذا كانوا محبوسين في طاقتهم فينبغي مطالبتهم بما يطالب به المحبوس وعذرهم بما يعذر به المحبوس وإذا بدا منهم في حقك تقصير أو إساءة أو تفريط فلا تقابلهم به ولا تخاصمهم بل اغفر لهم ذلك واعذرهم نظرا إلى جريان الأحكام عليهم وأنهم آلة وهاهنا ينفعك الفناء بشهود الحقيقة عن شهود جنايتهم عليك كما قال بعض العارفين لرجل تعدى عليه وظلمه: إن كنت ظالما فالذي سلطك علي ليس بظالم وهاهنا للعبد أحد عشر مشهدا فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه أحدها: المشهد الذي ذكره الشيخ رحمه الله وهو مشهد القدر وأن ما جرى عليه: بمشيئة الله وقضائه وقدره فيراه كالتأذي بالحر والبرد والمرض والألم وهبوب الرياح وانقطاع الأمطار فإن الكل أوجبته مشيئة الله فما شاء الله كان ووجب وجوده وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده وإذا شهد هذا: استراح وعلم أنه كائن لا محالة فما للجزع منه وجه وهو كالجزع من الحر والبرد والمرض والموت.
فصل:
المشهد الثاني: مشهد الصبر فيشهده ويشهد وجوبه وحسن عاقبته وجزاء أهله وما يترتب عليه من الغبطة والسرور ويخلصه من ندامة المقابلة والانتقام فما انتقم أحد لنفسه قط إلا أعقبه ذلك ندامة وعلم أنه إن لم يصبر اختيارا على هذا وهو محمود صبر اضطرارا على أكبر منه وهو مذموم.
فصل:
المشهد الثالث: مشهد العفو والصفح والحلم فإنه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته: لم يعدل عنه إلا لعشي في بصيرته فإنه ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلم بالتجربة والوجود وما انتقم أحد لنفسه إلا ذل هذا وفي الصفح والعفو والحلم: من الحلاوة والطمأنينة والسكينة وشرف النفس وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام: ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام.
فصل:
المشهد الرابع: مشهد الرضى وهو فوق مشهد العفو والصفح وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة سيما إن كان ما أصيبت به سببه القيام لله فإذا كان ما أصيب به في الله وفي مرضاته ومحبته: رضيت بما نالها في الله وهذا شأن كل محب صادق يرضى بما يناله في رضى محبوبه من المكاره ومتى تسخط به وتشكى منه كان ذلك دليلا على كذبه في محبته والواقع شاهد بذلك والمحب الصادق كما قيل:
من أجلك جعلت خدي أرضا ** للشامت والحسود حتى ترضى

ومن لم يرض بما يصيبه في سبيل محبوبه فلينزل عن درجة المحبة وليتأخر فليس من ذا الشأن.
فصل:
المشهد الخامس: مشهد الإحسان وهو أرفع مما قبله وهو أن يقابل إساءة المسيء إليه بالإحسان فيحسن إليه كلما أساء هو إليه ويهون هذا عليه علمه بأنه قد ربح عليه وأنه قد أهدى إليه حسناته ومحاها من صحيفته وأثبتها في صحيفة من أساء إليه فينبغي لك أن تشكره وتحسن إليه بما لا نسبة له إلى ما أحسن به إليك.
وههنا ينفع استحضار مسألة اقتضاء الهبة الثواب وهذا المسكين قد وهبك حسناته فإن كنت من أهل الكرم فأثبه عليها لتثبت الهبة وتأمن رجوع الواهب فيها وفي هذا حكايات معروفة عن أرباب المكارم وأهل العزائم.
ويهونه عليك أيضا: علمك بأن الجزاء من جنس العمل فإن كان هذا عملك في إساءة المخلوق إليك عفوت عنه وأحسنت إليه مع حاجتك وضعفك وفقرك وذلك فهكذا يفعل المحسن القادر العزيز الغني بك في إساءتك يقابلها بما قابلت به إساءة عبده إليك فهذا لابد منه وشاهده في السنة من وجوه كثيرة لمن تأملها.
فصل:
المشهد السادس: مشهد السلامة وبرد القلب وهذا مشهد شريف جدا لمن عرفه وذاق حلاوته وهو أن لا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه بل يفرغ قلبه من ذلك ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له وألذ وأطيب وأعون على مصالحه فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه فيكون بذلك مغبونا والرشيد لا يرضى بذلك ويرى أنه من تصرفات السفيه فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس وإعمال الفكر في إدراك الانتقام.
فصل:
المشهد السابع: مشهد الأمن فإنه إذا ترك المقابلة والانتقام:
أمن ما هو شر من ذلك وإذا انتقم: واقعه الخوف ولابد فإن ذلك يزرع العداوة والعاقل لا يأمن عدوه ولو كان حقيرا فكم من حقير أردى عدوه الكبير فإذا غفر ولم ينتقم ولم يقابل: أمن من تولد العداوة أو زيادتها ولابد أن عفوه وحلمه وصفحه يكسر عنه شوكة عدوه ويكف من جزعه بعكس الانتقام والواقع شاهد بذلك أيضا.
فصل:
المشهد الثامن: مشهد الجهاد وهو أن يشهد تولد أذى الناس له من جهاده في سبيل الله وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وإقامة دين الله وإعلاء كلماته وصاحب هذا المقام: قد اشترى الله منه نفسه وماله وعرضه بأعظم الثمن فإن أراد أن يسلم إليه الثمن فليسلم هو السلعة ليستحق ثمنها فلا حق له على من آذاه ولا شيء له قبله إن كان قد رضي بعقد هذا التبايع فإنه قد وجب أجره على الله وهذا ثابت بالنص وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم من سكنى مكة أعزها الله ولم يرد على أحد منهم داره ولا ماله الذي أخذه الكفار ولم يضمنهم دية من قتلوه في سبيل الله ولما عزم الصديق رضي الله عنه على تضمين أهل الردة ما أتلفوه من نفوس المسلمين وأموالهم قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم: تلك دماء وأموال ذهبت في الله وأجورها على الله ولا دية لشهيد فأصفق الصحابة على قول عمر ووافقه عليه الصديق فمن قام لله حتى أوذي في الله: حرم الله عليه الانتقام كما قال لقمان لابنه: {وأْمُرْ بِالْمعْرُوفِ وانْه عنِ الْمُنْكرِ واصْبِرْ على ما أصابك إِنّ ذلِك مِنْ عزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]
فصل:
المشهد التاسع: مشهد النعمة وذلك من وجوه:
أحدها: أن يشهد نعمة الله عليه في أن جعله مظلوما يترقب النصر ولم يجعله ظالما يترقب المقت والأخذ فلو خير العاقل بين الحالتين ولابد من إحداهما لاختار أن يكون مظلوما.
ومنها: أن يشهد نعمة الله في التكفير بذلك من خطاياه فإنه ما أصاب المؤمن هم ولا غم ولا أذى إلا كفر الله به من خطاياه فذلك في الحقيقة دواء يستخرج به منه داء الخطايا والذنوب ومن رضي أن يلقى الله بأدوائه كلها وأسقامه ولم يداوه في الدنيا بدواء يوجب له الشفاء: فهو مغبون سفيه فأذى الخلق لك كالدواء الكريه من الطبيب المشفق عليك فلا تنظر إلى مرارة الدواء وكراهته ومن كان على يديه وانظر إلى شفقة الطبيب الذي ركبه لك وبعثه إليك على يدي من نفعك بمضرته.
ومنها: أن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها فإنه ما من محنة إلا وفوقها ما هو أقوى منها وأمر فإن لم يكن فوقها محنة في البدن والمال فلينظر إلى سلامة دينه وإسلامه وتوحيده وأن كل مصيبة دون مصيبة الدين فهينة وأنها في الحقيقة نعمة والمصيبة الحقيقية مصيبة الدين ومنها: توفية أجرها وثوابها يوم الفقر والفاقة.
وفي بعض الآثار: أنه يتمنى أناس يوم القيامة لو أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء هذا وإن العبد ليشتد فرحه يوم القيامة بما له قبل الناس من الحقوق في المال والنفس والعرض فالعاقل يعد هذا ذخرا ليوم الفقر والفاقة ولا يبطله بالانتقام الذي لا يجدي عليه شيئا.
فصل:
المشهد العاشر: مشهد الأسوة وهو مشهد شريف لطيف جدا فإن العاقل اللبيب يرضى أن يكون له أسوة برسل الله وأنبيائه وأوليائه وخاصته من خلقه فإنهم أشد الخلق امتحانا بالناس وأذى الناس إليهم أسرع من السيل في الحدور ويكفي تدبر قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم وشأن نبينا وأذى أعدائه له بما لم يؤذه من قبله وقد قال له ورقة بن نوفل: لتكذبن ولتخرجن ولتؤذين وقال له: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وهذا مستمر في ورثته كما كان في مورثهم أفلا يرضى العبد أن يكون له أسوة بخيار خلق الله وخواص عباده: الأمثل فالأمثل ومن أحب معرفة ذلك فليقف على محن العلماء وأذى الجهال لهم وقد صنف في ذلك ابن عبدالبر كتابا سماه محن العلماء.
فصل:
المشهد الحادي عشر: مشهد التوحيد وهو أجل المشاهد وأرفعها فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله والإخلاص له ومعاملته وإيثار مرضاته والتقرب إليه وقرة العين به والإنس به واطمأن إليه وسكن إليه واشتاق إلى لقائه واتخذه وليا دون من سواه بحيث فوض إليه أموره كلها ورضي به وبأقضيته وفنى بحبه وخوفه ورجائه وذكره والتوكل عليه عن كل ما سواه: فإنه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له ألبتة فضلا عن أن يشتغل قلبه وفكره وسره بتطلب الانتقام والمقابلة فهذا لا يكون إلا من قلب ليس فيه ما يغنيه عن ذلك ويعوضه منه فهو قلب جائع غير شبعان فإذا رأى أي طعام رآه هفت إليه نوازعه وانبعثت إليه دواعيه وأما من امتلأ قلبه بأعلى الأغذية وأشرفها: فإنه لا يلتفت إلى ما دونها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فصل:
وأما قوله: أن يستفيد بمعرفة أقدار الناس وجريان الأحكام عليهم: محبتهم له ونجاتهم به فلأنه إذا عاملهم بهذه المعاملة: من إقامة أعذارهم والعفو عنهم وترك مقابلتهم: استوت كراهتهم ومحبتهم له وكان ذلك سببا لنجاتهم الأخروية أيضا إذ يرشدهم ذلك إلى القبول منه وتلقي ما يأمرهم به وينهاهم عنه أحسن التلقي هذه طباع الناس.
فصل:
قال: الدرجة الثانية: تحسين خلقك مع الحق وتحسينه منك: أن تعلم أن كل ما يأتي منك يوجب عذرا وأن كل ما يأتي من الحق يوجب شكرا وأن لا ترى له من الوفاء بدا هذه الدرجة مبنية على قاعدتين إحداهما: أن تعلم أنك ناقص وكل ما يأتي من الناقص ناقص فهو يوجب اعتذاره منه لا محالة فعلى العبد أن يعتذر إلى ربه من كل ما يأتي به من خير وشر أما الشر: فظاهر وأما الخير: فيعتذر من نقصانه ولا يراه صالحا لربه فهو مع إحسانه معتذر في إحسانه ولذلك مدح الله أولياءه بالوجل منه مع إحسانهم بقوله: {والّذِين يُؤْتُون ما آتوْا وقُلُوبُهُمْ وجِلةٌ} [المؤمنون: 60] وقال النبي: هو الرجل يصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه فإذا خاف فهو بالاعتذار أولى والحامل له على هذا الاعتذار أمران:
أحدهما: شهود تقصيره ونقصانه.
والثاني: صدق محبته فإن المحب الصادق يتقرب إلى محبوبه بغاية إمكانه وهو معتذر إليه مستحي منه: أن يواجهه بما واجهه به وهو يرى أن قدره فوقه وأجل منه وهذا مشاهد في محبة المخلوقين القاعدة الثانية: استعظام كل ما يصدر منه سبحانه إليك والاعتراف بأنه يوجب الشكر عليك وأنك عاجزة عن شكره ولا يتبين هذا إلا في المحبة الصادقة فإن المحب يستكثر من محبوبه كل ما يناله فإذا ذكره بشيء وأعطاه إياه: كان سروره بذكره له وتأهيله لعطائه: أعظم عنده من سروره بذلك العطاء بل يغيب بسروره بذكره له عن سروره بالعطية وإن كان المحب يسره ذكر محبوبه له وإن ناله بمساءة كما قال القائل:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة ** لقد سرني أني خطرت ببالكا

فكيف إذا ناله محبوبه بمسرة وإن دقت فإنه لا يراها إلا جليلة خطيرة فكيف هذا مع الرب تعالى الذي لا يأتي أبدا إلا بالخير ويستحيل خلاف ذلك في حقه كما يستحيل عليه خلاف كماله وقد أفصح أعرف الخلق بربه عن هذا بقوله: والشر ليس إليك أي لا يضاف إليك ولا ينسب إليك ولا يصدر منك فإن أسماءه كلها حسنى وصفاته كلها كمال وأفعاله كلها فضل وعدل وحكمة ورحمة ومصلحة فبأي وجه ينسب الشر إليه سبحانه وتعالى فكل ما يأتي منه فله عليه الحمد والشكر وله فيه النعمة والفضل قوله: وأن لا يرى من الوفاء بدا يعني: أن معاملتك للحق سبحانه بمقتضى الاعتذار من كل ما منك والشكر.
على ما منه: عقد مع الله تعالى لازم لك أبدا لا ترى من الوفاء به بدا فليس ذلك بأمر عارض وحال يحول بل عقد لازم عليك الوفاء به إلى يوم القيامة.
فصل:
قال: الدرجة الثالثة: التخلق بتصفية الخلق ثم الصعود عن تفرقة التخلق ثم التخلق بمجاوزة الأخلاق هذه الدرجة ثلاثة أشياء أحدها: تصفية الخلق بتكميل ما ذكر في الدرجتين قبله فيصفيه من كل شائبة وقذى ومشوش فإذا فعلت ذلك صعدت من تفرقته إلى جمعيتك على الله فإن التخلق والتصوف تهذيب واستعداد للجمعية وإنما سماه تفرقة: لأنه اشتغال بالغير والسلوك يقتضي الإقبال بالكلية والاشتغال بالرب وحده عما سواه ثم يصعد إلى ما فوق ذلك وهو مجاوزة الأخلاق كلها بأن يغيب عن الخلق والتخلق وهذه الغيبة لها مرتبتان عندهم إحداهما: الاشتغال بالله عز وجل عن كل ما سواه والثانية: الفناء في الفردانية التي يسمونها حضرة الجمع وهي أعلى الغايات عندهم وهي موهبية لا كسبية لكن العبد إذا تعرض وصدق في الطلب: رجى له الظفر بمطلوبه والله أعلم.
فصل:
ومدار حسن الخلق مع الحق ومع الخلق: على حرفين ذكرهما عبدالقادر الكيلاني فقال: كن مع الحق بلا خلق ومع الخلق بلا نفس فتأمل ما أجل هاتين الكلمتين مع اختصارهما وما أجمعهما لقواعد السلوك ولكل خلق جميل وفساد الخلق إنما ينشأ من توسط الخلق بينك وبين الله تعالى وتوسط النفس بينك وبين خلقه فمتى عزلت الخلق حال كونك مع الله تعالى وعزلت النفس حال كونك مع الخلق فقد فزت بكل ما أشار إليه القوم وشمروا إليه وحاموا حوله والله المستعان. اهـ.